لا تَخلو الرويات من الحبكة الدرامية أو أساليب السَّرد التي تثيرُ العواطف وتجعل الإنسان يشعر ويعيش بنفسه أحداث الرواية التي يقرأها، وهذا ما يميّز الروايات عن غيرها من الكتب.
لكن الحال مختلف في روايات أدب السجون السورية، حيث لا تُعطي الكلمات ولا تعكس أساليبُ الوصف البديعة سوى الشيء القليل من الواقع اللإنساني داخل أقبية المخابرات السورية، وعلى الرغم من اِسترسال الكُتّاب في محاولة وصف تجاربهم.. تبقى هناك بعض التفاصيل التي لا يذكرها أصحابها لمدى سوءها وبشاعتها لِمَساسِها بكرامتهم الإنسانية بشكلٍ مباشر.
أعتقد أنني قرأت معظم روايات الذين خرجوا من تلك المسالخ البشرية ممن قاموا بثوثيقها على الورق؛
في البدايات لم أكن أتأثر بها سوى قليلًا، فَما يَسمعُه الإنسان داخل مملكة الرعب السورية منذ نعومة أظافره تُهيّئه لا إراديًا لتوقُّع ما هو أسوأ من ذلك، إلّا أنه مع المزيد من التعمق والقراءة الطويلة في تلك الشهادات بدأت أشعر بنفحات الكآبة والبُؤس تلطم داخلي ووجداني البشري الذي لم يعد يحتمل المزيد من القصص المأساويّة.
كنت أُصاب برهبة وخوف تحديدًا حينما كنت أضع نفسي مكان من يروُون قصصهم وأبدأ بتخيُّل المشاهد والتَّسائُل في قرارة نفسي “ماذا كنت سأفعل في تلك اللحظة الفلانية أو في تلك؟ كم هو مؤلم يا تُرى!” فأنا وهُم أبناء ذات المجتمع وجميعنا نحمل ذات الأفكار حول النظام السوري المُستبد ورئيسها اليوم، فلقد كان من المحتمل أن أكون مرشَّحًا للإعتقال لولا صغر سني في ذلك الوقت وبُعدي عن التاريخ السياسي لسوريا وواقعها الحاضر هذا عدا عن أنني كُنتُ “طليعيًا بعثيًا قيد الإنشاء” يتبنى أفكار الحزب الواحد ويُردد في كل يوم (في المدرسة) شعارات الاشتراكية كالروبوت المُبرمج صباح كل أحد وخميس.
بعيدًا عن القصص المتداولة على لسان الشعب المكتوم على أنفاسه.. استمعت للعديد من قصص الإعتقال والتعذيب من لسان أصحابها أو أقربائهم، لم يكن الحديث يطول أكثر من ربع ساعة في أحسن الأحوال، وقد كان الأمر مقرونًا بمدى قابلية المعتقل بالرغبة في الحديث حول ما عاشه داخل السجن وما شاهد من فظائع يندى لها جبين الإنسانية.
رغم وجودنا داخل مملكة الرعب.. لم يخطر في بالي يومًا أن يُعتقل أحد الناس المقربين مني ويموت بسبب التعذيب في سجون النظام السوري ولا تُسلَّم لنا جثّته، في تلك اللحظة.. أي عندما تلقيت خبر الوفاة، انهالت على عقلي عشرات الأسئلة من قَبيل لماذا؟ ماذا فعل؟ كيف توفي؟ كيف قاموا بتعذيبه! وهل كان يستحق أن يُسلب الحق بالحياة فقط لكونه يحمل أفكارًا تعارض نظام الحكم، وهل كانوا يعلمون بأنه معارض؟ هل الدولة إله، ونحن العبيد!!
لا شيء من ذاك سوى أنّ قَدره كان أن يقع فريسة بأيدي المتوحشين الذين يتلذذون برؤية الدماء وبسماع أصوات التألُّم والتأوه الذي يصدره المعتقلون عند كل ضربةٍ يتلقّونها على أجسادهم المتهالكة.
لقد كتبتُ وتحدثت كثيرًا عن المعتقلين والمُعتقلات في بلادي، ويبدو أنني سأستمر في الكتابة ولن أبرح أكتبُ عن مأساتهم حتى يخرجوا من أقبيتهم فأطمئن حينها.
أعتقد بأننا الأمة الوحيدة التي لديها كنز ثقافي أدبي فريد في هذا العالم، ألا وهو أدب السجون؛
يالَنا من محظوظين!
لا يُهمني سقوط نظام الأسد المُتغطرس الذي جرَّ سوريا وأسقطها في الهاوية بقدرِ ما يهمني حريّة المعتقلين وخلاصُهم من الجحيم الذي هُم فيه الآن، فهؤلاء الأبطال الصامدون لا يعلم بحالهم أحد سوى أصحاب الضمائر الحيّة ممن بقوا يسمعون أنينهم، هُناك- داخل الأقبيةِ العَفِنة، في سوريا..
الدولةِ المُتوحشَّة