تمرُّ بنا الأيام بينما أزدادُ يقينًا بأن الجامعة سَلبَتْ مني روحي الأدبيّة وجعلتني أبتعد عن كلِّ ما يستهويني، فصبَغتني بلون دخانها الذي لا يشبه أيَّ لون آخر، يتخلَّفُ منها رمادٌ ذلك الذي رانَ على قلبي، أخرجَتني من بوتقة الجمالِ والفنِّ والفلسفةِ التي كنت منتميًا إليها ذات يوم، وأدخَلَتني مرغمًا عالمَ القُيود.
عالمٌ تتصادم فيه أفكاري بانتظام، أعيش صراعًا مع ذاتي، يأبى أن يستجيبَ لها القلب، وكيفَ يستجيبُ وفيه مادةُ همّه، وفي النَّفس علّةٌ لا يُجدي الحديثُ عنها هُنا، وقد رهقني الحال، وضعفَ لذلك داخلي.
هذا اعترافٌ منّي..
كثيرًا ما أشعرُ بشعورِ الوَحدة التي يُعاقَب بها السَّجين داخل الجدران الأربع، ذلك ما تفعلهُ بي جدرانُ الجامعة رغم انجذابي لها، وإيماني بأهمّيتها وضرورة ارتيادها؛ ورغم صخب مُحيطي هناك، وكثرة أصدقائي وأخلّائي والناس من حولي.. إلّا أن هذا الشُّعور يظلُّ مرافقًا لي لا يفتأ ينفكُّ عنّي.
ولا عِلمَ لي بشعورَ الآخَرين، لكنني أشكُ بوجودِ أحدٍ غيري ممن تلازمهُ أفكارُ القُيودِ العصريّة التي أتخيَّلُها وأشدُّ عليها داخلَ مساحاتِ عقلي.
وليس القصدُ بالكلامِ هنا كُرهُ الجامعة، أو انتقادُ نظامِها التَّعليمي الذي يشعُرُ فيه كثيرون بأنهم عيِّنَاتُ اختبارٍ للكفاءةِ لا أكثر، بل محاولةٌ منّي للتمرُّد عليها قليلًا دون رفضها أو تحطيم أسطورتها العالميّة.
أتخيَّلُ الجامعة حين تتلقّف الطلبة ولسانُ حالها يقول: هل سيصمُدُ هذا الفتى أمام كلِّ عقَباتي! هيّا لنرى ما سيفعل.
لا أُخفي عن أحدٍ أنني أَأسى على أنفُسِا حيث نقضي النّهار مُبعَدين عن الحياة ونكون في الليلِ مُبعَدين من حياةِ النَّهار لنكون جُزءًا من واقع عالَمنا المادّي فيما بعد.
لا شكَّ أن ذلك مؤقَّت، غيرَ أنني كنت أتسائل في قرارة نفسي- عندَ بذلنا جهودًا مضاعفة، “هل ما نقوم به سيعودُ علينا بالنفع روحيًا دون انقطاع أم أنه لابد منها لدواعيَ ماديّة فقط!
ماذا ومن سيستفيد من كلّ ذلك في النهاية، الدولة، المجتمع أم أنا؟
على ما يبدو أن الجميع مُستفيد، سواءٌ بشكلٍ مباشر أو لا، فلكُلٍ منّا هدفه، ووحده الإنسان من سيقرر المستفيد.
بعدَ تلك التوطئة،
أَعلمُ في نفسي علمَ اليقين، أنَّ حياة الإنسان العصري ما هيَ إلا تكملةٌ لتاريخٍ واسعٍ من الدراما الإنسانية، دراما بدأَتْ جذورها من المرحلة التمهيدية لوجود الإنسانِ في الجنة، وذلك ما يُساعدني على إدراك المادة والحياة الشخصيّة، حيثُ يتناول العلمُ الأولى- أي الجامعة (آلة انتاج الحياة المادّية)، ويتناول الفن الأخيرة (أي حياة الإنسان خارج نطاق الماديّة التي فُرضَت علينا).
هذه ما أراهُ إدراكًا للصّلةِ الروحيّة (الجوّانية) التي لا أريد أن يقطعها عني عالمُ الواقع الخارجي (البرّاني)، إنها ببساطة، شعورٌ بالتّسامي، يتعلّق بمصيري كإنسان وبحقيقة وجودي، وينبع من أعماقِ النّفس التي ترفض التخلي عن رسالتها السّماوية الموكلة إليها على هذه الأرض.