في لحظة ما شعرت أنها ستمثّلني، ستبهرني، ستجعلني متلهفًا لمتابعتها كل يوم، ستكون قناتي المفضلة بين جميع قنوات التلفاز، غير أنها خيّبت ظني نهاية الأمر.

طال إنتظار إعلامنا الرسمي، اختلقتُ الأعذار لهم بسبب العقوبات الدولية المفروضة التي ورثها البلد (الضحية يرث عقوبة الجلّاد.. يا لهذا الغباء الدولي) وكأننا (الشعب) نُعاقَب على إسقاط بشار ونظامه.

كنتُ أُمنّي النفس بقناة تنقل نبضنا، تحكي عن شهدائنا وعن وصاياهم، عن مجاهدي ثورتنا وتضحياتهم على جبهات القتال، عن الإيمان والفكر الذي حملوه فكان ذاك النّصر.. لكنّها وللأسف، لم تكن سوى صدى لقناة "تلفزيون سوريا".

كما أنّ إنطلاقة القناة لم تكن كما تخليَّتها، فلا موسيقى تدبُّ الحماس في النفس، ولا مقدّمة مشوّقة تدفع الإنسان ليتابع بشغف.

بدأ البث بموسيقى لا تليق بثورة سوريا، شعرت وكأنها موسيقى تعكس لحظة حزينة من مسلسل "أبو جانتي" خصوصًا أنها كانت من وسط دمشق والأجواء ذاتها كما في المسلسل.. السرافيس "المشحورة" لا زالت تعمل وتسير خلف المذيع في مشهد يعيدني بالذاكرة لأكثر من عقد مضى.

لم تكن خيبتي محصورة بالموسيقى أو المقدّمة فحسب، بل كانت أعمق من ذلك بكثير، كَوني توقّعت رؤية قناة تمثّل صوت الشعب، تنقل وجعه، وتعرض بطولاته، وليس التزييف وتلميع من اتّسخت يداه بالخيانة كما كان يحدث أيام النظام البائد.

ما رأيته البارحة (يوم إنطلاقة القناة) وما شاهدت من برامج لم يكن سوى إعادة تدوير لخطابات وطنية مملّة وشعارات بالية عفى عليها الزمن.

في المساء خرجوا علينا ببرنامج استضافوا فيه ٣ ضيوف، درزيَّان ومحافظ مدينة السويداء.

بصراحة وبدون تحفّظ.. الدروز بدؤوا بنفخ حالهم كما العادة، أكثروا كثيرًا من مصطلحات الفخر والكرامة وكأن غيرهم بلا كرامة، يشعرونك أنهم هم الوحيدون الشجعان والأوفياء والذين تتوافر فيهم صفات الرجولة، بينما هم ليسوا كذلك، مثلهم مثل أي مجتمع، ستجد فيه من كل الأصناف، لكن ما يميّزهم عن غيرهم "حالة الفخر العالية بالطائفة".. والمشكلة لا تكمن بصفة الفخر والعصبية المقيتة، بل بأنهم يصنعون لأنفسهم أمجادًا زائفة، فحتى سلطان باشا الأطرش الذي درّسونا إياه على أنه قائدًا للثورة السورية الكبرى أيام الانتداب الفرنسي كان خائنًا ولم يحارب الفرنسيين لأجل سوريا ووحدتها، بل لأنه كان عميلًا للإنكليز.

يمكن لأي باحث تأكيد هذا الكلام وكل شيء موثّق في الأرشيفات (الفرنسية والعثمانية والبريطانية).

لقد قاموا بتزوير التاريخ لشعب كامل وأخفوا عنه حقيقة أن من قاد الثورة السورية الكبرى ضد الإحتلال الفرنسي هم مشايخ وعلماء الشام من السنّة أمثال الشيخ بدر الدين الحسني.

أكبر خطأ في الحياة، أن يثق الإنسان بمناهج التاريخ الدراسية في بلده.. فللأسف غالبًا ما تكون مطوعة وتخدم سردية الفئة الحاكمة.

على كل حال، أعود للموضوع الأساسي، كنت أتحدث عن "الإخبارية" ثم تطرقتُ "لشركاء الوطن" الدروز، وأن حديثهم كان مقززًا لدرجة كبيرة، كونهم لم يشاركوا بالثورة، ولم يشاركوا بالعمل المسلح ضد النظام البائد.. رغم ذلك لا زالوا على عادتهم (توزيع الوطنيات على الشعب والافتخار بتاريخ مزوّر)، والأكثر استفزازًا، هو حين يبدأ الضيوف بترديد عبارات من نوع "نحن كنا وما زلنا خط الدفاع الأول عن كرامة سوريا"، والكثير من الكلام المضحك الذي لا يعبّره أصغر طفل سوري عرف الحقيقة.

والغريب في اللقاء كان بقاء المحافظ ساكتًا يستمع "لمراجل" الدروز نصف ساعة وربما أكثر دون أن ينطق بكلمة، حتى ظننت أنه غير موجود في الاستوديو (أكبر إهانة للمحافظ أن تستضيفه القناة الوطنية ثم تجعله يستمع لكلام من يرفض تسليم السلاح للدولة)، ثم حين نطق.. بدأ يُنافق للسويداء.

آه يا مسكين، حقيقة ذكرني بمحافِظي نظام الأسد وعواطفهم المشلخة، عندما بدأ يقول كلمات المديح المجانية، ويغدق في وصف "صمود" الدروز و"دورهم التاريخي" في حماية الوطن كما لو أنهم حماة الديار ومحرروا سوريا الحقيقيون.

كان ذاك اللقاء مليئًا بالتصنّع، بالكذب المتقن، أشبه بتمثيلية ركيكة يُراد بها تلميع الطائفة الدرزية واستمالتها بشكل مُنفّر.

كانوا يتحدّثون وكأن الثورة لم تقم، وكأن مدننا لم تُدمَّر، وكأن المجازر لم تُرتكب، وكأننا لم ندفن الشهداء، بينما بقيت السويداء الذي تطالب بالخصوصية وتدّعي الوطنية اليوم.. بقيت ساكنة تراقب من بعيد.

لا أقبل بالتلفزيون الرسمي السوري وهو لا يمثّلني، فلن أقبل بالترويج لشراكة وطنية تُبنى على أساس الصمت والخذلان عند المواقف الحاسمة، عندما يتعرض البلد والشعب لخطر نراهم يفعّلون وضعية "إعمل حالك ميّت، اللهم طائفتي".

اللقاء الذي تحدثتُ عنه هو مثال صغير جدًا على منهجية القناه التي تشبه تلفزيون سوريا لدرجة كبيرة وأنها لم تولد لتخدم الحقيقة، بل لتجمّل الساكتين وتبرّر للمتخاذلين تخاذلهم.