تُثيرُ براغماتية الحكومة السورية قلقًا متزايدًا داخل الأوساط الثّورية والمحافِظة داخل المجتمع السوري، حيث يرى كثيرون أن التحولات التي طرأت على سلوكها السياسي والاجتماعي بعد انتقالها من إدلب إلى دمشق تُعتبَر انفصالًا عن حاضنتها الأصلية التي قدّمت التضحيات ودعمتها خلال معركة إسقاط النظام.
فحينما كانت حكومة الإنقاذ في إدلب، كان لها نهج واضح وصريح ومتسق مع طبيعة البيئة الاجتماعية المحافظة، بل ومتطابق مع المزاج العام لتلك المرحلة.
لكن الانتقال إلى دمشق حمل معه (تحولًا مفاجئًا، وليس تدريجيًا) في الخطاب والسياسات، ما جعل التيار المحافظ يشعر بأن الحكومة التي دعمتها بدأت تنسلخ عن هويتها الأصلية ويتّخذ مرجعية ليبرالية غير المرجعية الشرعية الإسلامية الذي كان معمولًا به في إدلب، بينما برر البعض الآخر هذا التغيير بالحاجة إلى الانفتاح والمرونة كونها انتقلت (الحكومة) إلى بيئة جديدة أكثر تعقيدًا وتنوعًا.
وقد برزت أولى مظاهر البراغماتية في أول أيام التحرير.. عندما أقدمت الحكومة على إزالة راية التوحيد من مؤسسات الدولة، استجابة لمطالب الأقليات غير المسلمة والتيارات العلمانية التي لم تتقبل رفع راية دينية تمثل الغالبية من الشعب السوري (وباعتبارها الراية التي رفعت في معظم المعارك وجبهات القتال).
هذه الخطوة بالذات، أثارت امتعاض التيار الإسلامي الذي كان له الدور الأبرز في تحرير سوريا، فرأوا فيها تنازلًا غير مبرر عن رموز الثورة والهوية الإسلامية للبلاد رغم محاولات الحكومة تبريرها تحت شعار "المصلحة العامة".
سلسلةٌ من القرارات والسياسات شكلّت هاجسًا وتخوفًا لدى التيار المحافظ، بل وحتى من بعض المَظاهر، كخروج زوجة الرئيس أحمد الشرع بلباس ذو طابع مختلف بألوان زاهية في قمة العشرين بأنطاليا التركية بخلاف ما كانت ترتديه سابقًا، (لباس فضفاض أسود شبيه بالنقاب).
مؤخرًا، صدر القرار رقم 294 عن وزارة السياحة، والذي تضمّن إجراءات تتعلق بملابس السباحة في الشواطئ،
الغريب في الأمر أن من اعترض على القرار بشكل علني هم في الغالب البيئة المؤيدة سابقًا للأسد، بالإضافة إلى التيارات الليبرالية التي ترى أن من حق النساء ارتداء ما يشأن على الشواطئ.
أما المفارقة الكبرى، فهي أن القرار طالب بارتداء ملابس سباحة أكثر احتشامًا كالبوركيني، ومنعَ العري خارج مناطق السباحة، مع السماح بملابس السباحة الغربية في المنتجعات السياحية (4 نجوم وما فوق).
وبعد تصاعد النقاش والغضب من الذين استنكروا القرار.. أصدرت الوزارة توضيحًا جديدًا أكدت فيه أنه:
- لا يوجد منع لأي نوع من ملابس السباحة (تناقض سريع مع القرار الأول).
- البوركيني مسموح بعد أن كان محظورًا سابقًا.
هذا التوضيح يُظهر كيف أن الحكومة تبرر وتحاول اللعب على الحبلين، (إرضاء التيار المحافظة بظاهر القرار، وإرضاء الليبراليين من خلال نفي نية المنع أو الفرض).
لكن بيت القصيد ليس هنا، بل في مكان آخر..
حيث إن الحكومة جاءت بفعل إسقاط النظام وليس عبر صندوق الاقتراع، وهذا يحمّلها مسؤولية أخلاقية مضاعفة تجاه الحاضنة التي ضحّت وقدّمت الشهداء والثوار والمقاتلين من أجل بناء سوريا جديدة تتبنى قيمها، لا تلتفّ عليها (والمقصود هنا القيم الإسلامية).
فمراعاة هذه الحاضنة ليست خيارًا براغماتيًا، بل شرطًا لبقاء شرعية الحكم أصلًا، وأي تجاهل لهذه القاعدة الشعبية من أجل التكيّف مع التيارات الأخرى لن يُفهم إلا كاستغلالٍ للثورة وليس امتدادًا لها.
وهذا نشهده ما بدأنا نشهده اليوم فعلًا، حيث أن التطبيل للحكومة قل بدرجة كبيرة وخصوصًا مع إطلاق سراح المجرمين من ضباط النظام السابق في يوم عرفة ممن ثبت تورطهم بالفيديو والصور.
ختامًا، من واجبنا (كحاضنة ثَوريّة) التنويه لمسألة أن البراغماتية الزائدة ليست دائمًا دليل نضج سياسي، وأنه من الضروري جدًا التذكير بأن الثورات لا تُختزل فقط في الجبهات وميادين القتال، بل في الخطاب العام والسياسات اليومية التي إما تُعيد إنتاج النظام البائد بثوب جديد، أو ترسّخ واقعًا جديدًا يليق بمن قدّم روحه ثمنًا للحرية والكرامة.