واقعيًا نعم، فإسرائيل دمرت غزة ليس لأجل التدمير، بل لإنهاء حماس بالدرجة الأولى، وبالتالي عدم خروج حماس يسبب كارثة إنسانية لحاضنة حماس وغيرهم من أهل غزة.
حتى الآن لا نعلم كم تبلغ نسبة المؤيدين لحماس داخل غزة بسبب تصدير إعلام المقاومة لصورة غير حقيقية بأن غزة صامدة وأن سكانها يؤيدون حماس بغالبيتهم. من المؤكد أن تأييد حماس تراجع بكثير عن ذي قبل، لكن لا تزال هناك حاضنة شعبية تسندهم، فالحاضنة مهمة وتلعب دورًا أساسيًا في مثل هذه الأوضاع.
عندما ننظر من هذا الجانب، سنصل لهذه النتيجة (أن حماس هي السبب بتعنتها)، لكن عندما تنظر للموضوع من جانب حماس سترى أنهم لا زالوا صامدين وأنهم يقاومون الاحتلال (بغض النظر عن حجم الخسائر، بشرية كانت أو مادية).
لكن لماذا تفكر حماس بتلك الطريقة رغم أنها تسببت بتدمير إسرائيل لغزة وإنهاك السكان؟
الجواب هنا لا يرتبط فقط بالواقعية السياسية، بل بنظرتها العقائدية لفلسطين ولمفهوم المقاومة.
حماس ترى نفسها حارسًا لعقيدة الأمة في الأرض المباركة، لا مجرد فصيل يسعى للحكم أو التفاوض (رغم أنها تريد دائمًا أن تحكم غزة بنفسها وقد تتعامل بقسوة مع معارضيها، أو الذين يؤثرون على مشروعها).
في الواقع حماس حركة ديكتاتورية لكن بالمفهوم الإيجابي، وهذا ما يُسمّى بجزئية "الحسم العسكري" في مراحل تثبيت السلطة والسيطرة على القرار الداخلي، وهي مرحلة لا غنى عنها لأي مشروع تحرري يواجه استعمارًا خارجيًا وبيئة داخلية منقسمة. وقد طبّقته الحركة بنجاح داخل غزة بالذات عندما أنهت فوضى السلاح والتنازع مع حركة فتح عام 2007، ففرضت هيبة أمنية واضحة، وحسمت مراكز القوى التي كانت مرتبطة بالسلطة الفلسطينية أو متهمة بالتعاون مع الاحتلال. هذا الحسم لم يكن خيارًا ترفيًّا، بل ضرورة للبقاء والاستمرار، لأن أي مشروع مقاومة لا يمكن له أن يتقدّم حينما تكون اليبئة مفككة، ومهما وُصف هذا الفعل بالقسوة (والبعض يصفه بالإجرام).. إلا أن النتيجة كانت بسط السيطرة الأمنية وتحويل غزة إلى بيئة شبه مستقرة (رغم الحصار وحالة الحرب)، تمامًا كما حصل في إدلب بعد فرض هيئة تحرير الشام سيطرتها الكاملة على المحافظة بالقوة، واستخدام القوة هنا ليس لإخضاع الناس، إنما توحيدًا للصف ولضبط المسار، وكذلك تحصين الجبهة الداخلية من الانهيار.
حماس تنظر لفلسطين على أنه وقف إسلامي لا يجوز التفريط به، والمقاومة ليست تكتيكًا لديها، بل واجبًا دينيًا ثم وطنيًا بالدرجة الثانية،
أحيانًا تطغى الوطنية على العقيدة لكنه يظهر بثوب إسلامي، بعكس قسم كبير من المؤيدين لقضية فلسطين من خارج غزة.. الذين ينظرون للقضية كمشروع وطني ثم كواجب ديني إسلامي ودون أن يشعروا، وهذا الفهم للقضية حوُلها لصنم وطاغوت مقدس عند كثيرين منهم، فلا يجوز لك أن تنتقد أفعال حماس ولا أن تُعمل عقلك وتحلل ما قامت وتقوم به، والأهم من ذلك ألّا تعتقد بوجود أكبر معاناة للبشر إلا على أرض فلسطين.. كذلك يجب أن تُقدَّم جميع الشعوب كقرابين لمشروع تحرير فلسطين مهما كانت ظروفهم الداخلية والسياسية والعسكريّة والاقتصادية.
من هذا المنظور (نظرة حماس لفلسطين)، يُعَد الصمود في وجه العدو واجبًا شرعيًا، بل ويُنظر له كنوع من الابتلاء الذي لا يُرفع إلا بثبات المؤمنين.. وليس بالتراجع أمام ضغط الواقع أو ألم الناس مهما بلغت الخسائر.
هذا التفكير ليس سليمًا 100% في واقعنا الدولي الحالي، وهو ما تسبب بضلال حماس وتوجهها نحو إيران (التي خذلت فلسطين والمقاومة أكثر من المطبعين العرب بالمناسبة).
أمّا خروج حماس من غزة:
وهنا أصل المعضلة، ففوق البُعد العقدي الذي ذكرناه آنفًا، يكمن واقع سياسي عسير، وهي أن حماس لا تملك رفاهية الخيارات، فمثلًا حين أُجبِرَت المعارضة السورية على الانسحاب من مدنها والتوجه إلى إدلب أو الشمال تحت ضغط وهمجية ووحشية النظام وروسيا وإيران وتسببهم باستشهاد ألاف المدنيين وتدمير مدنهم.. كان ذلك انسحابًا داخل الجغرافيا السورية (آنذاك نقلت المعارضة ثقلها لمكان آخر)، وبقي الأمل بالعودة ممكنًا.
أما بالنسبة لحماس، فخيارها الوحيد عند تسليم غزة هو الرحيل خارج فلسطين كليًا، إلى المنافي والشتات، دون أمل حقيقي في العودة. فخروجها من غزة يعني انتهاء مشروعها ووجودها العسكري الثقيل في كامل فلسطين، ولو أنها وجدت خيارًا كخيار خروج المعارضة السورية للشمال لكانت فعلت ذلك..
المكتب السياسي لحماس لن يفيد القضية بشيء في حال تسلمت غزة، فلن تقيم إسرائيل لهم وزنًا، ولا حتى أي أحد من القوى الدولية.. هذا لأنهم لم يعودوا يملكون قطعة أرض، فالدخول إلى اللعبة السياسية شرطه الأساسي امتلاك مساحة جغرافية معينة وضبتها عسكريًا ومدنيًا.
لهذا تصرّ حماس على البقاء داخل قطعة الأرض تلك، لا لأنها تستهين بآلام الناس، بل لأنها تعرف مصيرها وأن نهايتها (كحركة) ستكون كارثة أكبر من الحرب ذاتها، حينها ستتحول حماس إلى مجرد ذكرى في كتب التاريخ.